فصل: ذكر استيلاء السامانيّة على الرَّيّ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عزل الخصيبيّ ووزارة عليّ بن عيسى:

في هذه السنة، في ذي القعدة، عزل المقتدر أبا العبّاس الخصيبيَّ عن الوزارة.
وكان سبب ذلك أنّ الخصيبيّ أضاف إضافة شديدة، ووقفت أمور السلطان لذلك، واضطرب أمر الخصيبيّ.
وكان حين وليَ الوزارة قد اشتغل بالشرب كلّ ليلة؛ وكان يصبحُ سكران لا قصد فيه لعمل وسماع حديث؛ وكان يترك الكتب الواردة الدواوين لا يقرأها إلاّ بعد مدة ويهمل الأجوبة عنها، فضاعت الأموال، وفاتت المصالح، ثمّ إنّه لضجره وتبرُّمه بها وبغيرها من الأشغال، وكَل الأمورَ إلى نوابه، وأهمل الاطلاع عليها، فباعوا مصلحته بمصلحة نفوسهم.
فلمّا صار الأمر إلى هذه الصورة أشار مؤنس المظفَّر بعزله، وولاية عليّ ابن عيسى، فقَبض عليه، وكانت وزارته سنة وشهرين، وأخذ ابنه وأصحابه فحُبسوا، وأرسل المقتدر بالله بالغد إلى دمشق يستدعي عليَّ بن عيسى، وكان بها. وأمر المقتدر أبا القاسم عبيدالله بن محمّد الكلوذانيَّ بالنيابة عن عليّ ابن عيسى إلى أن يحضر، فسار عليُّ بن عيسى إلى بغداد، فقدمها أوائل سنة خمس عشرة، واشتغل بأمور الوزارة، ولازم النظر فيها، فمشت الأمور، واستقامت الأحوال.
وكان من أقوم الأسباب في ذلك أنّ الخصيبيّ كان قد اجتمع عند رقاع المصادرين، وكفالات مَن كفل منهم، وضمانات العمّال بما ضمنوا من المال بالسواد، والأهواز، وفارس، والمغرب، فنظر فيها عليٌّ، وأرسل في طلب تلك الأموال، فأقبلت إليه شيئاً بعد شيء، فأدّى الأرزاق، وأخرج العطاء، وأسقط من الجند مَن لا يحمل السلاح، ومن أولاد المرتزقة من هو في المهد، فإنّ آباءهم أثبتوا أسماءهم، ومن أرزاق المغنّين، والمساخرة، والندماء، والصفاعنة، وغيرهم، مثل الشيخ الهرم، ومن ليس له سلاح، فإنّه أسقطهم، وتولّى الأعمال بنفسه ليلاً ونهاراً، واستعمل العمّال في الولايات، واختار الكفاة.
وأمر المقتدر بالله بمناظرة أبي العبّاس الخصيبيّ، فأحضره، وأحضر الفقهاء والقضاة والكتّاب وغيرهم، وكان عليٌّ وقوراً لا يسفه، فسأله عما صحّ من الأموال من الخراج، والنواحي، والأصقاع والمصادرات والمتكلّفين بها، ومن البواقي القديمة إلى غير ذلك، فقال: لا أعلمه.
وسأله عن الإخراجات، والواصل إلى المخزن، فقال: لا أعرفه؛ وقال له: لِمَ أحضرت يوسف بن أبي الساج، وسلّمت إليه أعمال المشرق، سوى أصبهان، وكيف تعتقد أنّه يقدر هو وأصحابه، وهم قد ألفوا البلاد الباردة الكثيرة المياه، على سلوك البرية القفراء، والصبر على حرّ بلاد الإحساء والقطيف، ولِمَ لَمْ تجعل معه منفقاً يخرج المال على الأجناد؟ فقال: ظننتُ أنّه يقدر على قتال القرامطة، وامتنع من أن يكون معه منفق.
فقال له: كيف استجزتَ في الدين والمروءة ضرب حُرِمَ المصادَرين وتسليمهنّ إلى أصحابك، كامرأة ابن الفرات وغيره، فإن كانوا فعلوا ما لا يجوز ألستَ أنت السبب في ذلك؟ ثمّ سأله عن الحاصل له، وعن إخراجاته، فخلّط في ذلك، فقال له: غرّرت بنفسك، وغرّرتَ بأمير المؤمنين، ألا قلت له إنّني لا أصلح للوزارة، فقد كان الفُرس، إذا أرادوا أن يستوزروا وزيراً، نظروا في تصرّفه لنفسه فإن وجدوه حازماً، ضابطاً، ولّوه، وإلاّ قالوا: من لا يحسن يدبّر نفسه فهو من غير ذلك أعجز، وتركوه؛ ثم أعاده إلى محبسه.

.ذكر استيلاء السامانيّة على الرَّيّ:

لّما استدعى المقتدرُ يوسفَ بن أبي الساج إلى واسط كتب إلى السعيد نصر ابن أحمد السامانيّ بولاية الرَّيّ، وأمره بقصدها، وأخذها من فاتك، غلام يوسف، فسار نصر بن أحمد إليها، أوائل سنة أربع عشرة وثلاثمائة، فوصل إلى جبل قارن، فمنعه أبو نصر الطبريُّ من العبور، فأقام هناك، فراسله، وبذل له ثلاثين ألف دينار حتّى مكّنه من العبور، فسار حتّى قارب الرَّيّ، فخرج فاتك عنها، واستولى نصر بن أحمد عليها في جمادى الآخرة، وأقام بها شهرَيْن، وولّى عليها سيمجور الدواتيَّ وعاد عنها.
ثمّ استعمل عليها محمّد بن عليّ صعلوك، وسار نصر إلى بخارى، ودخل صعلوك الرَّيّ، فأقام بها إلى أوائل شعبان سنة ست عشرة وثلاثمائة فمرض، فكاتب الحسنَ الدَّاعي، وما كان بن كالي في القدوم عليه ليسلّم الريّ إليهما، فقدما عليه، فسلّم الريّ إليهما وسار عنها، فلّما بلغ الدامغان مات.

.ذكر عدّة حوادث:

وفي هذه السنة ضمن أبو الهيجاء عبدُ الله بن حمدان أعمال الخراج والضِّياع بالموصل، وقَرْدَى، وبازَبْدَى، وما يجري معها.
وفيها سار ثمل إلى عمله بالثغور، وكان في بغداد.
وفيها، في ربيع الآخر، خرجت الروم إلى مَلَطْية وما يليها مع الدُّمُسْتُق، ومعه مليح الأرمنيُّ صاحب الدُّروب، فنزلوا على مَلَطْية، وحصروها، فصبر أهلها، ففتح الروم أبواباً من الربض، فدخلوا، فقاتلهم أهله، وأخرجوهم منه، ولم يظفروا من المدينة بشيء، وخرّبوا قرى كثيرة من قراها، ونبشوا الموتى، ومثلوا بهم، ورحلوا عنهم؛ وقصد أهل مَلَطْية بغداد مستغيثين، في جُمادى الأولى، فلم يعانوا، فعادوا بغير فائدة، وغزا أهل طَرَسُوس صائفة، فغنموا وعادوا.
وفيها جمدت دجلة عند الموصل من بلدَ إلى الحَدِيثة، حتّى عبر عليها الدّواب لشدّة البرد.
وفيها توفّي الوزر أبو القاسم الخاقانيُّ، وهرب ابنه عبد الوهّاب، ولم يحضر غسل أبيه ولا الصلاة عليه، وكان الوزير قد أُطلق من محبسه قبل موته.
وفيها توجّه أبو طاهر القُرمُطيُّ نحو مكّة،؛ فبلغ خبره إلى أهلها، فنقلوا حُرَمَهم وأموالهم إلى الطائف وغيره خوفاً منه.
وفيها كتب الكلوذانيُّ إلى الوزير الخصيبيّ، قبل عزله، بأنّ أبا طالب النُّوبَنْدَجَانيَّ قد صار يجري مجرى أصحاب الأطراف، وأنّه قد تغلّب على ضياع السلطان، واستغل منها جملة عظيمة، فصودر أبو طالب على مائة ألف دينار. ثم دخلت:

.سنة خمس عشرة وثلاثمائة:

.ذكر ابتداء الوحشة بين المقتدر ومؤنس:

في هذه السنة هاجت الروم، وقصدوا الثغور، ودخلوا سُمَيساط، وغنموا جميع ما فيها من مال وسلاح وغير ذلك، وضربوا في الجامع بالناقوس أوقاتَ الصلوات.
ثمّ إنّ المسلمين خرجوا في أثر الروم، وقاتلوهم، وغنموا منهم غنيمة عظيمة، فأمر المقتدر بالله بتجهيز العساكر مع مؤنس المظفَّر، وخلع المقتدر عليه، في ربيع الآخر، ليسير، فلمّا لم يبق إلاّ الوداع امتنع مؤنس من دخول دار الخليفة للوداع، واستوحش من المقتدر بالله وظهر ذلك.
وكان سببه أنّ خادماً من خدّام المقتدر حكى لمؤنس أنّ المقتدر بالله أمر خواصّ خدمه أن يحفر واجُبّاً في دار الشجرة، ويغطوه ببُراية وتراب، وذكر أنّه يجلس فيه لوداع مؤنس، فإذا حضر وقاربها ألقاه الخدم فيها، وخنقوه، وأظهروه ميّتاً، فامتنع مؤنس من دخول دار الخليفة، وركب إليه جميع الأجناد، وفيهم عبدالله بن حَمدان وإخوته، وخلت دار الخليفة، وقالوا لمؤنس: نحن نقاتل بين يديك إلى أن تنبت لك لحية، فوجّه إليه المقتدر رقعة بخطّة يحلف له على بطلان ما بلغه، فصرف مؤنس الجيش، وكتب الجواب أنه العبد المملوك، وأنّ الذي أبلغه ذلك قد كان وضعه مَن يريد إيحاشه من مولاه، وأنّه ما استدعى الجند، وإنّما هم حضروا، وقد فرَّقهم.
ثمّ إنّ مؤنساً قصد دار المقتدر في جمع من القوّاد، ودخل غليه، وقبّل يده، وحلف المقتدر على صفاء نيّته له، وودّعه وسار إلى الثغر في العشر الآخر من ربيع الآخرة، وخرج لوداعه أبو العبّاس بن المقتدر، وهو الراضي بالله، والوزير عليُّ بن عيسى.

.ذكر وصول القرامطة إلى العراق وقتل يوسف بن أبي الساج:

في هذه السنة وردت الأخبار بمسير أبي طاهر القُرامُطيّ من هَجَر نحو الكوفة، ثم وردت الأخبار من الصرة بأنّه اجتاز قريباً منهم نحو الكوفة. فكتب المقتدر إلى يوسف بن أبي الساج يعرّفه هذا الخبر، ويأمره بالمبادرة إلى الكوفة، فسار إليها عن واسط، آخر شهر رمضان، وقد أعدّ له بالكوفة الأنزال له ولعسكره، فلمّا وصلها أبو طاهر الهجَريُّ هرب نوّاب السلطان عنها، واستولى عليها أبو طاهر، وعلى تلك الأنزال والعلوفات، وكان فيها مائة كرّ دقيقاً، وألف كرّ شعيراً، وكان قد فني ما معه من الميرة والعلوفة، فقووا بما أخذوه.
ووصل يوسف إلى الكوفة بعد وصول القُرمُطيّ بيوم واحد، فحال بينه وبينها، وكان وصوله يوم الجمعة ثامن شوّال، فلمّا وصل إليهم أرسل إليهم يدعوهم إلى طاعة المقتدر، فإن أبوا فموعدهم الحرب يوم الأحد؛ لا طاعة علينا إلاّ لله تعالى، والموعد بيننا للحرب بُكرة غد.
فلمّا كان الغد ابتدأ أوباش العسكر بالشتم ورمي الحجارة، ورأى يوسف قلّة القَرامطة، فاحتقرهم، وقال: إنّ هؤلاء الكلاب بعد ساعة في يدي! وتقدّم بأن يكتب كتاب الفتح والبشارة بالظفر قبل اللقاء تهاوناً بهم.
وزحف الناس بعضهم إلى بعض، فسمع أبو طاهر أصوات البوقات والزعقات، فقال لصاحب له: ما هذا؟ فقال: فشل! قال: أجَلْ، لم يزد على هذا. فاقتتلوا من ضحوة النهار، يوم السبت، إلى غروب الشمس، وصبر الفريقان، فلمّا رأى أبو طاهر ذلك باشر الحرب بنفسه، ومعه جماعة يثق بهم، وحمل بهم، فطحن أصحاب يوسف، ودقّهم، فانهزموا بين يديه، وأسر يوسفَ وعدداً كثيراً من أصحابه، وكان أسره وقت المغرب، وحملوه إلى عسكرهم، ووكّل به أبو طاهر طبيباً يعالج جراحه.
وورد الخبر إلى بغداد بذلك، فخاف الخاصّ والعامّ من القرامطة خوفاً شديداً، وعزموا على الهرب إلى حُلوان وهَمَذان، ودخل المنهزمون بغداد، أكثرهم رجّالة، حفاة، عراة، فبرز مؤنس المظفَّر ليسير إلى الكوفة، فأتاهم الخبر بأنّ القرامطة قد ساروا إلى عين التمر، فأنفذ من بغداد خمس مائة سُمَيريّة فيها المقاتلة لتمنعهم من عبور الفرات، وسيّر جماعة من الجيش إلى الأنبار لحفظها، ومنع القرامطة من العبور هنالك.
ثمّ إنّ القرامطة قصدوا الأنبار، فقطع أهلها الجسر، ونزل القرامطة غرب الفرات، وأنفذ أبو طاهر أصحابه إلى الحديثة، فأتوه بسفن، ولم يعلم أهل الأنبار بذلك، وعبر فيها ثلاثمائة رجل من القرامطة، فقاتلوا عسكر الخليفة، فهزموهم، وقتلوا منهم جماعة، واستولى القرامطة على مدينة الأنبار، وعقدوا الجسر، وعبر أبو طاهر جريدة وخلّف سواده بالجانب الغربيّ.
ولّما ورد الخبر بعبور أبي طاهر إلى الأنبار، خرج نصر الحاجب في عسكر جرّار، فلحق بمؤنس المظفَّر، فاجتمعا في نيّف وأربعين ألف مقاتل، سوى الغلمان ومَن يريد النَّهب، وكان ممّن معه أبو الهيجاء عبدالله بن حمدان، ومن إخوته أبو الوليد، وأبو السرايا في أصحابهم، وساروا حتّى بلغوا نهر زبارا، على فرسخين من بغداد، عند عَقْرَقُوف، فأشار أبو الهيجاء بن حمدان بقطع القَنطرة التي عليه، فقطعوها، وسار أبو طاهر ومَن معه نحوهم، فبلغوا نهر زبارا، وفي أوائلهم رجل أسود، فما زال الأسود يدنو من القنطرة، والنشاب يأخذه، ولا يمتنع، حتّى أشرف عليها، فرآها مقطوعة، فعاد وهو مثل القنفذ.
وأراد القرامطة العبور فلم يمكنهم لأن النهر لم يكن فيه مخاضة، ولّما أشرفوا على عسكر الخليفة هرب منهم خلق كثير إلى بغداد من غير أن يلقوهم، فلّما رأى ابن حَمدان ذلك قال لمؤنس: كيف رأيت ما أشرت به عليكم؟ فوالله لو عبر القرامطة النهر لأنهزم كلّ مَن معك ولأخذوا بغداد؛ ولّما رأى القرامطة ذلك عادوا إلى الأنبار، وسيّر مؤنس المظفَّر صاحبَهُ بُليقاً، في ستّة آلاف مقاتل، إلى عسكر القرامطة، غربيّ الفرات، ليغنموه ويخلصوا ابن أبي الساج، فبلغوا إليهم، وقد عبر أبو طاهر الفرات في زورق صيّاد، وأعطاه ألف دينار، فلمّا رآه أصحابه قويت قلوبهم، ولّما أتاهم عسكر مؤنس كان أبو طاهر عندهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عسكر الخليفة.
ونظر أبو طاهر إلى ابن أبي الساج وهو قد خرج من الخيمة ينظر ويرجو الخلاص، وقد ناداه أصحابه: أبشر بالفرج! فلّما انهزموا أحضره وقتله، وقتل جميع الأسرى من أصحابه. وسلمت بغداد من نهب العيّارين، لأنّ نازوك كان يطوف هو وأصحابه ليلاً ونهاراً، ومَن وجدوه بعد العَتمة قتلوه، فامتنع العيّارون، واكترى كثير من أهل بغداد سفناً، ونقلوا إليها أموالهم، وربطوها لينحدروا إلى واسط، وفيهم مَن نقل متاعه إلى واسط إلى حُلوان ليسيروا إلى خُراسان. وكان عدّة القرامطة ألف رجل وخمسمائة رجل منهم سبعمائة فارس وثمانمائة راجل، وقيل كانوا ألفَينْ وسبعمائة.
وقصد القرامطة مدينة هَيت، وكان المقتدر قد سيّر إليها سعيد بن حمدان، وهارون بن غريب، فلّما بلغها القرامطة رأوا عسكر الخليفة قد سبقهم، فقاتلوهم على السور، فقتلوا من القرامطة جماعة كثيرة، فعادوا عنها.
ولّما بلغ أهلَ بغداد عودهم من هَيت سكنت قلوبهم؛ ولّما علم المقتدر بعدّة عسكره وعسكر القرامطة قال: لعن الله نيّفاً وثمانين ألفاً يعجزون عن ألفين وسبعمائة.
وجاء إنسان إلى عليّ بن عيسى، وأخبره أنّ في جيرانه رجلاً من شِيراز على مذهب القرامطة يكاتب أبا طاهر بالأخبار، فأحضره، وسأله واعترف، وقال: ما صحبتُ أبا طاهر إلا لما صحّ عندي أنّه على الحقّ وأنت وصاحبك كفّار تأخذون ما ليس لكم، ولا بدّ لله من حجّة في أرضه، وإمامنا المهديُّ محمّد بن فلان بن فلان بن محمّد بن إسماعيل بن جعفر الصادق المقيم ببلاد المغرب، ولسنا كالرافضة والاثني عشريّة الذين يقولون بجهلهم إن لهم إماماً ينتظرونه، ويكذب بعضهم لبعض فيقول: قد رأيتُه وسمعتُه وهو يقرأ، ولا ينكرون بجهلهم وغباوتهم أنه لا يجوز أن يعطى من العمر ما يظنّونه، فقال له: قد خالطتَ عسكرنا وعرفتهم، فمن فيهم على مذهبك؟ فقال: وأنت بهذا العقل تدبّر الوزارة، كيف تطمع مني أنّني أسلّم قوماً مؤمنين إلى قوم كافرين يقتلونهم؟ لا أفعل ذلك. فأمر به فضرب ضرباً شديداً، ومُنع الطعام والشراب فمات بعد ثلاثة أيّام.
وقد كان ابن أبي الساج قبل قتاله القرامطة قد قبض على وزيره محمّد ابن خلف النِّيرَمانيّ وجعل مكانه أبا عليّ الحسن بن هارون، وصادر محمّداً على خمسمائة ألف دينار، وكان سبب ذلك أنّ النِّيرَمانيَّ عظم شأنه، وكثر ماله، فحدّث نفسه بوزارة الخليفة، فكتب إلى نصر الحاجب يخطب الوزارة، ويسعى بابن أبي الساج، ويقول له: إنّه قُرمُطيٌّ يعتقد إمامة العلويّ الذي بإفريقية، وإنّني ناظرتُه على ذلك، فلم يرجع عنهن وإنّه لا يسير إلى قتال أبي طاهر القُرمُطيّ، وإنّما يأخذ المال بهذا السبب، ويقوى به على قصد حضرة السلطان، وإزالة الخلافة عن بني العبّاس؛ وطوّل في ذلك وعرّض.
وكان لمحمّد بن خلف أعداء قد أساء إليهم من أصحاب ابن أبي الساج فسعوا به، فأعلموا يوسفَ بن أبي الساج ذلك، وأروه كتباً جاءته من بغداد في المعنى من نصر الحاجب، وفيها رموز إلى قواعد قد تقدّمت وتقرّرت، وفيها الوعد له بالوزارة، وعزْل عليّ بن عيسى الوزير، فلمّا علم ذلك ابن أبي الساج قبض عليه، فلمّا أُسر ابن أبي الساج تخلّص من الحبس؛ وكان ابن أبي الساج يسمّى الشيخ الكريم لما جمع الله فيه من خلال الكمال والكرم.

.ذكر استيلاء أسفار على جرجان:

في هذه السنة استولى أسفار بن شيرويه الدّيلَميُّ على جُرجان، وكان ابتداء أمره أنّه كان من أصحاب ما كان بن كالي الديلميّ، وكان سيئ الخُلق والعِشْرة، فأخرجه ما كان من عسكره، فاتّصل ببكر بن محمّد بن ألِيسَعَ، وهو بنَيسابور، وخدمه، فسيّره بكر بن محمّد إلى جُرجان ليفتحها.
وكان ما كان بن كالي، ذلك الوقت، بطَبرِستان، وأخوه أبو الحسن بن كالي بجُرجان، وقد اعتقل أبا عليّ بن أبي الحسين الأطروش العلويّ عنده، فشرب أبو الحسن بن كالي ليلة ومعه أصحابه ففرّقهم، وبقي في بيت هو والعلويُّ، فقام إلى العلويُّ ليقتله، فظفر به العلويُّ وقتلهن وخرج من الدار واختفى، فلّما أصبح أرسل إلى جماعة من القوّاد يعرّفهم الحال، ففرحوا بقتل أبي الحسن بن كالي، وأخرجوا العلويَّ، وألبسوه القَلَنْسُوة وبايعوه، فأمسى أسيراً، وأصبح أميراً، وجعل مقدّم جيشه عليَّ بن خرشيد، ورضي به الجيش، وكاتبوا أسفار بن شيرويه، وعرّفوه الحال، واستقدموه إليهم، فاستأذن بكرَ بن محمّد وسار إلى جُرجان، واتّفق مع عليّ بن خرشيد، وضبطوا تلك الناحية، فسار إليهم ما كان بن كالي، من طبرستان، في جيشه، فحاربوه وهزموه وأخرجوه عن طَبَرستان، وأقاموا بها ومعهم العلويُّ، فلعب يوماً بالكرة، فسقط عن دابّته فمات.
ثمّ مات عليُّ بن خرشيد صاحب الجيش، وعاد ما كان بن كالي إلى أسفار، فحاربه، فانهزم أسفار منه، ورجع إلى بكر بن محمّد بن ألِيسَعَ، وهو بجُرجان، وأقام بها إلى أن توفّي بكر بها، فولاّها الأميرُ السعيد نصرُ بن أحمد أسفارَ بن شيرويه، وذلك سنة خمس عشرة وثلاثمائة، وأرسل أسفار إلى مَرداويج بن زيار الجيليّ يستدعيه، فحضر عنده، وجعله أمير الجيش، وأحس إليه، وقصدوا طَبرستان واستولوا عليها.
ونحن نذكر حال ابتداء مرداويج وكيف تقلّبت به الأحوال.

.ذكر الحرب بين المسلمين والروم:

في هذه السنة خرجت سَرِيّة من طَرَسُوس إلى بلاد الروم، فوقع عليها العدوّ، فاقتتلوا فاستظهر الروم وأسروا من المسلمين أربعمائة رجل، فقُتلوا صبراً.
وفيها سار الدُّمُسْتُق في جيش عظيم من الروم إلى مدينة دَبيل، وفيها نصر السُّبُكيُّ في عسكر يحميها، وكان مع الدُّمُستُق دَبابات ومجانيق معه مِزراق يزرق بالنار عدّة اثنى عشر رجلاً، فلا يقر بين يديه أحد من شدّة ناره واتّصاله، فكان من أشدّ شيء على المسلمين.
وكان الرامي به، مباشرُ القتال من أشجعهم، فرماه رجل من المسلمين بسهم فقتله، وأراح الله المسلمين من شرّه.
وكان الدمستق يجلس على كرسي عالٍ يشرف على البلد وعلى عسكره، فأمرهم بالقتال على ما يراه، فصبر له أهل البلد، وهو ملازم القتال، حتى وصلوا إلى سور المدينة، فنقبوا فيه نقوباً كثيرة، ودخلوا المدينة، فقاتلهم أهلها ومَن فيها من العسكر قتالاً شديداً، فانتصر المسلمون، وأخرجوا الروم منها، وقتلوا منهم نحو عشرة آلاف رجل.
وفيها، في ذي القعدة، عاد ثمل إلى طَرَسُوس من الغزاة الصائفة سالماً هو ومَن معه فلقوا جمعاً كثيراً من الروم، فاقتتلوا فانتصر المسلمون عليهم وقتلوا من الروم كثيراً، وغنموا ما لا يحصى.
وكان من جملة ما غنموا أنّهم ذبحوا من الغنم في بلاد الروم ثلاثمائة ألف رأس، سوى ما سلم معهم، ولقيهم رجل يُعرف بابن الضحّاك، وهو من رؤساء الأكراد، وكان له حصن يُعرف بالجعفريّ، فارتدّ عن الإسلام وصار إلى ملك الروم فأجزل له العطية، وأمره بالعود إلى حصنه، فلقيه المسلمون، فقاتلوه، فأسروه، وقتلوا كلّ مَن معه.

.ذكر مسير جيش المهديّ إلى المغرب:

في هذه السنة سيّر المهديُّ العلويُّ، صاحب أفريقية، ابنه أبا القاسم من المهديّة إلى المغرب في جيش كثير، في صفر، لسبب محمّد بن خرز، الزناتيّ، وذلك أنّه ظفر بعسكر من كُتامة، فقتل منهم خلقاً كثيراً، فعظم ذلك على المهديّ، فسيّر ولده، فلمّا خرج تفرّق الأعداء، وسار حتّى وصل إلى ما وراء تاهَرت، فلّما عاد من سفرته هذه خطّ برُمحه في الأرض صفة مدينة وسمّاها المحمدّية، وهي المسيلة.
وكانت خطّته لبني كملان، فأخرجهم منها، ونقلهم إلى فَحص القَيروان، كالمتوقّع منهم أمراً، فلذلك أحبذ أن يكونوا قريباً منه، وهم كانوا أصحاب أبي يزيد الخارجيّ، وانتقل خلق كثير إلى المحمّديّة، وأمر عاملها أن يُكثر من الطعام ويخزنه ويحتفظ به ففعل ذلك، فلم يزل مخزناً إلى أن خرج أبو يزيد ولقيه المنصور، ومن المحمّديّة كان يمتار ما يريد إذ ليس بالموضع مدينة سواها.

.ذكر عدّة حوادث:

في هذه السنة مات إبراهيم بن المسمعي من حمّى حادّة، وكان موته بالنُّوبَنْدَجان، فاستعمل المقتدر مكانه على فارس ياقوتاً، واستعمل عوضه على كَرْمان أبا طاهر محمّد بن عبد الصمد، وخلع عليهما.
وفيها شغب الفرسان ببغداد، وخرجوا إلى المصلّى، ونهبوا القصر المعروف بالثريا، وذبحوا ما كان فيه من الوحش، فخرج إليهم مؤنس، وضمن لهم أرزاقهم، فرجعوا إلى منازلهم.
وفيها ظفر عبد الرحمن بن محمّد بن عبدالله الناصر لدين الله الأمويُّ، صاحب الأندلس، بأهل طُليطُلة وكان قد حصرها مدّة لخلاف كان عليه فيها، فلّما ظفر بهم أخرب كثيراً من عماراتها وشعّثها، وكانت حينئذ دار إسلام.
وفيها قصد الأعراب سواد الكوفة فنهبوه خرّبوه، ودخلوا الحيرة فنهبوها، فسيّر إليهم الخليفة جيشاً فدفعوهم عن البلاد.
وفيها، في ربيع الأوّل، انقضّ كوكب عظيم، وصار له صوت شديد على ساعتين بقيتا من النهار.
وفيها، في جُمادى الآخرة، احترق كثير من الرُّصافة ووصيف الجوهريُّ ومُرَبّعة الخُرسي ببغداد.
وفيها توفّي أبو بكر محمّد بن السرّيّ، المعروف بابن السرّاج النحويَّ، صاحب كتاب الأصول في النحو وقيل توفّي سنة ست عشرة.
وفيها، في شعبان، توفّي أبو الحسن عليُّ بن سليمان الأخفش فجأة. ثم دخلت:

.سنة ست عشرة وثلاثمائة:

.ذكر أخبار القرامطة:

لّما سار القرامطة من الأنبار عاد مؤنس الخادم إلى بغداد، فدخلها ثالث المحرّم، وسار أبو طاهر القُرمُطيُّ إلى الدالية من طريق الفرات، فلم يجد فيها شيئاً، فقتل من أهلها جماعة، ثم سار إلى الرحبة، فدخلها ثامن المحرّم، بعد أن حاربه أهلها، فوضع فيهم السيف بعد أن ظفر بهم، فأمر مؤنس المظفَّر بالمسير إلى الرَّقّة، فسار إليها في صفر، وجعل طريقه على الموصل، فوصل إليها في ربيع الأوّل، ونزل بها، وأرسل أهل قَرقِيسيا يطلبون من أبي طاهر الأمان، فأمّنهم وأمرهم أ، لا يظهر أحد منهم بالنهار، فأجابوه إلى ذلك.
وسيّر أبو طاهر سريّة إلى الأعراب بالجزيرة، فنهبوهم، وأخذوا أموالهم، فخافه الأعراب خوفاً شديداً وهربوا من بين يديه، وقرّر عليهم إتاوة على كلّ رأس دينار يحملونه إلى هَجَر، ثمّ أصعد أبو طاهر من الرَّحبة إلى الرَّقّة، فدخل أصحابه الربض وقتلوا منهم ثلاثين رجلاً، وأعان أهلُ الرّقّة أهلّ الربض، وقتلوا من القرامطة جماعة، فقاتلهم ثلاثة أيّام، ثمّ انصرفوا آخر ربيع الآخر.
وبثّت القرامطة سريّة إلى رأس عين، وكفر توثا، فطلب أهلها الأمان، فأمّنوهم، وساروا أيضاً إلى سنجار، فنهبوا الجبال، ونازلوا سِنجار، فطلب أهلها الأمان، فأمّنوهم.
وكان مؤنس قد وصل إلى الموصل، فبلغه قصد القرامطة إلى الرَّقّة فجدّ السير إليها، فسار أبو طاهر عنها، وعاد إلى الرحبة، ووصل مؤنس إلى الرّقّة بعد انصراف القرامطة عنها، ثمّ إنّ القرامطة ساروا إلى هَيت، وكان أهلها قد أحكموا سورها، فقاتلوه، فعاد عنهم إلى الكوفة؛ فبلغ الخبر إلى بغداد، فأُخرج هارون بن غريب، وبنّيّ بن نفيس ونصر الحاجب إليها، ووصلت خيل القُرمُطيّ إلى قصر ابن هُبَرة، فقتلوا منه جماعة.
ثمّ إنّ نصراً الحاجب حُمّ في طريقه حمّى حادّى، فتجلّد وسار، فلمّا قاربهم القُرمطيُّ لم يكن في نصر قوة على النهوض والمحاربة، فاستخلف أحمد بن كَيْغَلَغ، واشتدّ مرض نصر، وأمسك لسانه لشدّة مرضهن فردّوه إلى بغداد، فمات في الطريق أواخر شهر رمضان، فجُعل مكانه على الجيش هارون بن غريب، ورُتّب ابنه أحمد بن نصر في الحجبة للمقتدر مكان أبيه، فانصرف القرامطة إلى البرّية، وعاد هارون إلى بغداد في الجيش، فدخلها لثمان بقين من شوّال.

.ذكر عزل عليّ بن عيسى ووزارة أبي عليّ بن مقلة:

في هذه السنة عُزل عليُّ بن عيسى عن وزارة الخليفة، ورُتّب فيها أبو عليّ بن مقلة.
وكان سبب ذلك أنّ عليّاً لّما رأى نقص الارتفاع، واختلال الأعمال بوزارة الخاقانيّ والخُصيبيّ، وزيادة النفقات، وأنّ الجند لّما عادوا من الأنبار زادهم المقتدر في أرزاقهم مائتَيْ ألف وأربعين ألف دينار في السنة، ورأى أيضاً كثرة النفقات للخدم والحُرَم، لا سيّما والدة المقتدر، هاله ذلك، وعظم عليه.
ثمّ إنّه رأى نصراً الحاجب يقصده، وينحرف عنه لميل مؤنس إليه، فإنّ نصراً كان يخالف مؤنساً في جميع ما يشير به، فلمّا تبينّ له ذلك استعفى من الوزارة، واحتجّ بالشيخوخة وقلّة النهضة، فأمره المقتدر بالصبر، وقال له: أنت عندي بمنزلة والدي المعتضد؛ فألحّ عليه في الاستعفاء، فشاور مؤنساً في ذلك، وأعلمه أنّه قد سُمّي للوزارة ثلاثة نفر: الفضل بن جعفر بن الفُرات الذي أمّه حيرانة، وأخته زوجة المحسن بن الفرات، وأبو عليّ بن مقلة، ومحمّد بن خلف النِّيرَمانيّ الذي كان وزير ابن أبي الساج؛ فقال مؤنس: أمّ الفضل فقد قتلنا عمّه الوزير أبا الحسن، وابن عمّه زوج أخته المحسن ابن الوزير، وصادرنا أخته فلا نأمنه؛ وأمّا ابن مقلة فحدَثٌ غِرٌ لا تجربَة له بالوزارة، ولا يصلح لها؛ وأمّا محمّد بن خلف فجاهل متهوّر لا يُحسن شيئاً، والصواب مداراة عليّ بن عيسى.
ثمّ لقي مؤنس عليَّ بن عيسى، وسكّنه، فقال عليٌّ: لو كنتَ مقيماً لاستعنتُ بك، ولكنّك سائرٌ إلى الرَّقّة ثمّ إلى الشام.
وبلغ الخبر أبا عليّ بن مقلة، فجدّ في السعي، وضمن على نفسه الضمانات، وشاور المقتدرُ نصراً الحاجب في هؤلاء الثلاثة، فقال: أمّا الفضل بن الفرات فلا يُدفع عن صناعة الكتابة، والمعرفة، والكفاية، ولكنّك بالأمس قتلتَ عمّه وابن عمّه وصهره، وصادرتَ اخته وأمّه؛ ثمّ إنّ بني الفرات يدينون بالرفض، ويُعرفون بولاء آل عليّ وولده، وأمّا أبو عليّ بن مقلة فلا هيبة له في قلوب الناس، ولا يُرجَع إلى كفاية، ولا تجربة، وأشار بمحمّد بن خلف لمودّة كانت بينهما، فنفر المقتدر من محمّد بن خلف لما علمه من جهله وتهوّره، وواصل ابن مقلة بالهديّة إلى نصر الحاجب، فأشار على المقتدر به، فاستوزره.
وكان ابن مقلة لّما قرب الهَجَريُّ من الأنبار قد أنفذ صاحباً له معه خمسون طائراً، وأمره بالمقام بالأنبار، وإرسال الأخبار إليه وقتاً بوقت، ففعل ذلك، فكانت الأخبار ترد من جهته إلى الخليفة على يد نصر الحاجب، فقال نصر: هذا فعله فيما لا يلزمه، فكيف يكون إذا اصطنعته! فكان ذلك من أقوى الأسباب في وزارته.
وتقدّم المقتدر في منتصف ربيع الأوّل بالقبض على الوزير عليّ بن عيسى، وأخيه عبد الرحمن، وخلع على أبي عليّ بن مقلة، وتولّى الوزارة، وأعانه عليها أبو عبدالله البريديُّ لمودّة كانت بينهما.